التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ذم الغرور




بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته

اعلم أن قوله تعالى فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وقوله تعالى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني الآية كاف في ذم الغرور
 وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملء الأرض من المغترين  وقال صلى الله عليه وسلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله  وكل ما ورد في فضل العلم وذم الجهل فهو دليل على ذم الغرور لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به والغرور هو جهل إلا أن كل جهل ليس بغرور بل يستدعي الغرور مغرورا فيه مخصوصا ومغرورا به وهو الذي يغره فمهما كان المجادل المعتقد شيئا يوافق الهوى وكان السبب الموجب للجهل شبهة ومخيلة فاسدة يظن أنها دليل ولا تكون دليلا سمي الجهل الحاصل به غرورا فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه فأكثر الناس إذا مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم حتى كان غرور بعضهم أظهر وأشد من بعض وأظهرها وأشدها غرور الكفار وغرور العصاة والفساق فنورد لهما أمثلة لحقيقة الغرور
 المثال الأول غرور الكفار فمنهم من غرته الحياة الدنيا ومنهم من غره بالله الغرور أما الذين غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين قالوا النقد خير من النسيئة والدنيا نقد والآخرة نسيئة فهي إذن خير فلا بد من إيثارها وقالوا اليقين خير من الشك ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فلا نترك اليقين بالشك وهذه أقيسة فاسدة تشبه قياس إبليس حيث قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون
وعلاج هذا الغرور إما بتصديق الإيمان وإما بالبرهان أما التصديق بمجرد الإيمان فهو أن يصدق الله تعالى في قوله ما عندكم ينفذ وما عند الله باق وفي قوله عز وجل وما عند الله خير وقوله والآخرة خير وأبقى وقوله وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وقوله فلا تغرنكم الحياة الدنيا وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك طوائف من الكفار فقلدوه وصدقوه وآمنوا به ولم يطالبوه بالبرهان  ومنهم من قال نشدتك الله أبعثك الله رسولا فكان يقول نعم فيصدق  وهذا إيمان العامة وهو يخرج من الغرور وينزل هذا منزلة تصديق الصبي والده في أن حضور المكتب خير من حضور الملعب مع أنه لا يدري وجه كونه خيرا
 وأما المعرفة بالبيان والبرهان فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس الذي نظمه في قلبه الشيطان فإن كل مغرور فلغروره سبب وذلك السبب هو دليل وكل دليل فهو نوع قياس يقع في النفس ويورث السكون إليه وإن كان صاحبه لا يشعر به ولا يقدر على نظمه بألفاظ العلماء فالقياس الذي نظمه الشيطان فيه أصلان :
أحدهما أن الدنيا نقد والآخرة نسيئة وهذا صحيح والآخر قوله إن النقد خير من النسيئة وهذا محل التلبيس فليس الأمر كذلك بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير وإن كان أقل منها فالنسيئة خير فإن الكافر المغرور يبذل في تجارته درهما ليأخذ عشرة نسيئة ولا يقول النقد خير من النسيئة فلا أتركه وإذا حذره الطبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفا من ألم المرض في المستقبل فقد ترك النقد ورضي بالنسيئة والتجار كلهم يركبون البحار ويتعبون في الأسفار نقدا لأجل الراحة والربح نسيئة فإن كل عشرة في ثاني الحال خيرا من واحد في الحال فأنسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى مدة الآخرة فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة وليس هو عشر عشير من جزء من ألف ألف جزء من الآخرة فكأنه ترك واحدا ليأخذ ألف ألف بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد وإن نظر من حيث النوع رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات ولذات الآخرة صافية غير مكدرة فإذن قد غلط في قوله النقد خير من النسيئة فهذا غرور منشؤه قبول لفظ عام مشهور أطلق وأريد به خاص فغفل به المغرور عن خصوص معناه فإن من قال النقد خير من النسيئة أراد به خيرا من نسيئة هي مثله وإن لم يصرح به وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر وهو أن اليقين خير من الشك إذا الآخرة شك وهذا القياس أكثر فسادا من الأول لأن كلا أصليه باطل إذ اليقين خير من الشك إذا كان مثله وإلا فالتاجر في تعبه على يقين وفي ربحه على شك والمتفقه في جهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك والصياد في تردده في المقتنص على يقين وفي الظفر بالصيد على شك وكذا الحزم دأب العقلاء بالاتفاق وكل ذلك ترك اليقين بالشك ولكن التاجر يقول إن لم أتجر بقيت جائعا وعظم ضرري وإن اتجرت كان تعبي قليلا وربحي كثيرا وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه وهو من الشفاء على شك ومن مرارة الدواء على يقين ولكن يقول ضرر مرارة الدواء قليل بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت فكذلك من شك في الآخرة فواجب عليه بحكم الحزم أن يقول أيام الصبر قلائل وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة فإن كان ما قيل فيه كذبا فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي وقد كنت في العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم فأحسب أني بقيت في العدم وإن كان ما قيل صدقا فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق ولهذا قال علي كرم الله وجهه لبعض الملحدين إن كان ما قلته حقا فقد تخلصت وتخلصنا وإن كان ما قلناه حقا فقد تخلصنا وهلكت وما قال هذا عن شك منه في الآخرة ولكن كلم الملحد على قدر عقله وبين له أنه وإن لم يكن متيقنا فهو مغرور
وأما الأصل الثاني من كلامه وهو أن الآخرة شك فهو أيضا خطأ بل ذلك يقين عند المؤمنين وليقينه مدركان أحدهما الإيمان والتصديق تقليدا للأنبياء والعلماء وذلك أيضا يزيل الغرور وهو مدرك يقين العوام وأكثر الخواص ومثالهم مثال مريض لا يعرف دواء علته وقد اتفق الأطباء وأهل الصناعة من عند آخرهم على أن دواءه النبت الفلاني فإنه يطمئن نفس المريض إلى تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك بالبراهين الطبية بل يثق بقولهم ويعمل به ولو بقى سوادى أو معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منه عددا وأغزر منه فضلا وأعلم منه بالطب بل لا علم له بالطب فيعلم كذبه بقولهم ولا يعتقد كذبهم بقوله ولا يغتر في علمهم بسببه ولو اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوها مغرورا فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة والمخبرين عنها والقائلين بأن التقوى هو الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها وجدهم خير خلق الله وأعلاهم رتبة في البصيرة والمعرفة والعقل وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء واتبعهم عليه الخلق على أصنافهم وشذ منهم آحاد من البطالين غلبت عليهم الشهوة ومالت نفوسهم إلى التمتع فعظم عليهم ترك الشهوات وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار فجحدوا الآخرة وكذبوا الأنبياء فكما أن قول الصبي وقول السوادى لا يزيل طمأنينة القلب إلى ما اتفق عليه الأطباء فكذلك قول هذا الغني الذي استرقته الشهوات لا يشكك في صحة أقوال الأنبياء والأولياء والعلماء وهذا القدر من الإيمان كاف لجمله الخلق وهو يقين جازم يستحث على العمل لا محالة والغرور يزول به وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء ولا تظنن أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الآخرة ولأمور الدين تقليد لجبريل عليه السلام بالسماع منه كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون معرفتك مثل معرفته وإنما يختلف المقلد فقط وهيهات فإن التقليد ليس بمعرفة بل هو اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح وأنه من أمر الله تعالى وليس المراد بكونه من أمر الله الأمر الذي يقابل النهي لأن ذلك الأمر كلام والروح ليس بكلام وليس المراد بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط لأن ذلك عام في جميع المخلوقات بل العالم عالمان عالم الأمر وعالم الخلق ولله الخلق والأمر فالأجسام ذوات الكمية والمقادير من عالم الأمر الخلق إذا الخلق عبارة عن التقدير في وضع اللسان وكل موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر وشرح ذلك سر الروح ولا رخصة في ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كسر القدر الذي منع من إفشائه فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه وإذا عرف نفسه وربه عرف أنه أمر رباني بطبعه وفطرته وأنه في العالم الجسماني غريب وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه في ذاته بل بأمر عارض غريب من ذاته وذلك العارض الغريب ورد على آدم صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بالمعصية وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى وأنه أمر رباني وحنينه إلى جواب الرب تعالى له طبعي ذاتي إلا أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته فينسى عند ذلك نفسه وربه ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه إذ قيل له ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون أي الخارجون عن مقتضى طبعهم ومظنة استحقاقهم يقال فسقت الرطبة عن كمامها إذا خرجت عن معدنها الفطري وهذه إشارة إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العارفون وتشمئز من سماع ألفاظها القاصرون فإنها تضر بهم كما تضر رياح الورد بالجعل وتبهر أعينهم الضعيفة كما تبهر الشمس أبصار الخفافيش وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية ويسمى صاحبه وليا وعارفا وهي مبادي مقامات الأنبياء وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء
ولنرجع إلى الغرض المطلوب فالمقصود أن غرور الشيطان بأن الآخرة شك يدفع إما بيقين تقليدي وإما ببصيرة ومشاهدة من جهة الباطن والمؤمنين بألسنتهم وبعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله تعالى وهجروا الأعمال الصالحة ولابسوا الشهوات والمعاصي فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة نعم أمرهم أخف لأن أصل الإيمان يعصمهم عن عقاب الأبد فيخرجون من النار ولو بعد حين ولكنهم أيضا من المغرورين فإنهم اعترفوا بأن الآخرة خير من الدنيا ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها ومجرد الإيمان لا يكفي للفوز قال تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وقال تعالى إن رحمت الله قريب من المحسنين ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وقال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فوعد المغفرة في جميع كتاب الله تعالى منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعا لا بالإيمان وحده فهؤلاء أيضا مغرورون أعني المطمئنين إلى الدنيا الفرحين بها المترفين بنعيمها المحبين لها الكارهين للموت خيفة فوات لذات الدنيا دون الكارهين له خيفة لما بعده فهذا مثال الغرور بالدنيا من الكفار والمؤمنين جميعا

ــــــــــــــــــــــــــــــ
>حديث حبذا نوم الأكياس وفطرهم الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين من قول أبي الدرداء بنحوه وفيه انقطاع وفي بعض الروايات أبي الورد موضع أبي الدرداء ولم أجده مرفوعا
>حديث الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس
>حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه متفق عليه من حديث ابن عمر وقد تقدم 





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي

  والمبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي ، استوعب فيه المؤلف جميع أبواب الفقه بأسلوب سهل ، وعبارة واضحة ، وبسط في الأحكام والأدلة والمناقشة ، مع المقارنة مع بقية المذاهب ، وخاصة المذهب الشافعي والإمام مالك ، وقد يذكر مذهب الإمام أحمد والظاهرية . وطريقة المبسوط أن يذكر المؤلف المسألة الفقهية ، ويبين حكمها على المذهب الحنفي ، ثم يستدل لها ، ثم يذكر آراء بعض المذاهب المخالفة ، ويشرح أدلتها ، ثم يناقش الأدلة ، ويرد عليها بما يراه الحق ، وقد يجمع بين أدلة الحنفية وأدلة المذاهب الأخرى المخالفين لهم جمعا حسنا ، يبعد التعارض . وهذا الكتاب شرح لكتاب " الكافي " للحاكم الشهيد محمد بن محمد المروزي ( 334هـ ) إمام الحنفية في وقته ، وقد جمع في " الكافي " كتب ظاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن في فروع المذهب الحنفي . والمبسوط كتاب قيم ومفيد ، وهو أوسع الكتب المطبوعة في الفقه الحنفي ، والفقه المقارن ، ويعتمد عليه الحنفية في القضاء والفتوى ، وفي التدريس والتصنيف . وكان السرخسي قد ألفه كله أو جله إملاء من ذاكرته ، وهو سجين في بئر في أوزجند بفرغانه ، وقال في مقدمته : " فرأيت ال

اكواد اسلامية html

اكواد اسلامية html اقدم لكم اخوتى فى الله أكوادا اسلامية مهمة جدا لمدونتك تجعلها جذابة        جعل الله ذلك فى ميزان حسناتك ********** طريقة وضع الكود فى مدونات قوقل (بلوجز) من اعلى الصفحة اضغط تصميم أختر اضافة أداة ثم أختر HTML/javascript ضع الكود فى المحتوى ثم اضغط على حفظ ***************    كود اناشيد اسلامية انسخ الكود التالي <center><iframe align="center" id="IW_frame_1438" src=" http://www.tvanashed.com/add/index.htm " frameborder="0" allowtransparency="1" scrolling="no" width="302" height="334"></iframe></center> كود القران الكريم <div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"> <span class="Apple-style-span" style="color: #887766; font-family: Arial, sans-serif; font-size: small;"><span class="Apple-style-span" style="font-size: 12px;"><span class="Apple-style-span" style