التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرياء حرام أو مكروه أو مباح


فإن قلت فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل ؟
فأقول فيه تفصيل :
 فإن الرياء هو طلب الجاه وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات فإن كان بغير العبادات فهو كطلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضا محمود وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال إني حفيظ عليم وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه وكما أن كثير المال يلهى ويطفى وينسى ذكر الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال
 وكما أنا نقول تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضا تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه فلا جاه أوسع من جاه ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم
فعلى هذا نقول تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا وقس على هذا كل ما تجمل للناس وتزين لهم والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يخرج يوما إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت أو تفعل ذلك يا رسول الله قال نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم (1)
نعم هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة لأنه كان مأمورا بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم ولو سقط من أعينهم لم يرغبوا في اتباعه فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر فكان ذلك قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لو قصد قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذرا من ذمهم ولومهم واسترواحا إلى توقيرهم واحترامهم كان قد قصد أمرا مباحا إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الأنس بالإخوان ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة وقد تكون طاعة وقد تكون مذمومة وذلك بحسب الغرض المطلوب بها
 ولذلك نقول الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان :
إحداهما أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر وهذا يبطل عبادته لأن الأعمال بالنيات وهذا ليس بقصد العبادة لا يقتصر على إحباط عبادته حتى نقول صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات والمعنى فيه أمران أحدهما يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه من أهل الدين وليس كذلك والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضا حتى لو قضى دين جماعة وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر والثاني يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ بالله ولذلك قال قتادة إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي
ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه فإن هذا استهزاء بالملك إذ لم يقصد التقريب إلى الملك بخدمته بل قصد بذلك عبدا من عبيده فأي استحقار يزيد على أن يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضرا ولا نفعا وهل ذلك إلا لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله وأنه أولى بالتقريب إليه من الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته وأي استهزاء يزيد على رفع العبد فوق المولى فهذا من كبائر المهلكات ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر (2) 
نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله تعالى ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة ولو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفرا جليا إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريبا من الشرك إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله فعن هذا كان شركا خفيا لا شركا جليا وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه فإن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا فكيف في يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا بل تقول الأنبياء فيه نفسي نفسي فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه الكاذب في الدنيا من الناس فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعا هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعا في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت إنه لا أجر له فيه أصلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
>(1)حديث عائشة أراد أن يخرج على أصحابه وكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل وقد تقدم في الطهارة 
>(2)حديث سمى الرياء الشرك الأصغر أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد وقد تقدم ورواه الطبراني من رواية محمود بن لبيد عن رافع بن خديج فجعله في مسند رافع وتقدم قريبا وللحاكم وصحح إسناده من حديث شداد بن أوس كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشرك الأصغر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اكواد اسلامية html

اكواد اسلامية html اقدم لكم اخوتى فى الله أكوادا اسلامية مهمة جدا لمدونتك تجعلها جذابة        جعل الله ذلك فى ميزان حسناتك ********** طريقة وضع الكود فى مدونات قوقل (بلوجز) من اعلى الصفحة اضغط تصميم أختر اضافة أداة ثم أختر HTML/javascript ضع الكود فى المحتوى ثم اضغط على حفظ ***************    كود اناشيد اسلامية انسخ الكود التالي <center><iframe align="center" id="IW_frame_1438" src=" http://www.tvanashed.com/add/index.htm " frameborder="0" allowtransparency="1" scrolling="no" width="302" height="334"></iframe></center> كود القران الكريم <div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"> <span class="Apple-style-span" style="color: #887766; font-family: Arial, sans-serif; font-size: small;"><span class="Apple-style-span" style="font-size: 12px;"><span class="Apple-style-span" style...

المبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي

  والمبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي ، استوعب فيه المؤلف جميع أبواب الفقه بأسلوب سهل ، وعبارة واضحة ، وبسط في الأحكام والأدلة والمناقشة ، مع المقارنة مع بقية المذاهب ، وخاصة المذهب الشافعي والإمام مالك ، وقد يذكر مذهب الإمام أحمد والظاهرية . وطريقة المبسوط أن يذكر المؤلف المسألة الفقهية ، ويبين حكمها على المذهب الحنفي ، ثم يستدل لها ، ثم يذكر آراء بعض المذاهب المخالفة ، ويشرح أدلتها ، ثم يناقش الأدلة ، ويرد عليها بما يراه الحق ، وقد يجمع بين أدلة الحنفية وأدلة المذاهب الأخرى المخالفين لهم جمعا حسنا ، يبعد التعارض . وهذا الكتاب شرح لكتاب " الكافي " للحاكم الشهيد محمد بن محمد المروزي ( 334هـ ) إمام الحنفية في وقته ، وقد جمع في " الكافي " كتب ظاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن في فروع المذهب الحنفي . والمبسوط كتاب قيم ومفيد ، وهو أوسع الكتب المطبوعة في الفقه الحنفي ، والفقه المقارن ، ويعتمد عليه الحنفية في القضاء والفتوى ، وفي التدريس والتصنيف . وكان السرخسي قد ألفه كله أو جله إملاء من ذاكرته ، وهو سجين في بئر في أوزجند بفرغانه ، وقال في مقدمته : " فرأيت ال...