
بيان ترك الطاعات خوفامن الرياء ودخول الآفات\
اعلم أن منالناس من يترك العمل خوفا من أن يكون مرائيا به وذلك غلط وموافقة للشيطان بل الحق فيمايترك من الأعمال وما لا يترك لخوف الآفات ما نذكره وهو أن الطاعات تنقسم إلى ما لالذة في عينه كالصلاة والصوم والحج والغزو فإنها مقاساة ومجاهدات إنما تصير لذيذة منحيث إنها توصل إلى حمد الناس وحمد الناس لذيذ وذلك عند اطلاع الناس عليه وإلى ما هولذيذ وهو أكثر مالا يقتصر على البدن بل يتعلق بالخلق كالخلافة والقضاء والولايات والحسبةوإمامة الصلاة والتذكير والتدريس وإنفاق المال على الخلق وغير ذلك مما تعظم الآفة فيهلتعلقه بالخلق ولما فيه من اللذة
القسم الأول
الطاعات اللازمة للبدن التي لا تتعلقبالغير ولا لذة في عينها كالصوم والصلاة والحج فخطرات الرياء فيها ثلاث:
إحداها ما يدخلقبل العمل فيبعث على الابتداء لرؤية الناس وليس معه باعث الدين فهذا مما ينبغي أن يتركلأنه معصية لا طاعة فيه فإنه تدرع بصورة الطاعة إلى طلب المنزلة فإن قدر الإنسان علىأن يدفع عن نفسه باعث الرياء ويقول لها ألا تستحيين من مولاك لا تسخين بالعمل لأجلهوتسخين بالعمل لأجل عباده حتى يندفع باعث الرياء وتسخو النفس بالعمل لله عقوبة للنفسعلى خاطر الرياء وكفارة له فليشتغل بالعمل
الثانية أن ينبعث لأجل الله ولكن يعترض الرياءمع عقد العبادة وأولها فلا ينبغي أن يترك العمل لأنه وجد باعثا دينيا فليشرع في العملوليجاهد نفسه في دفع الرياء وتحسين الإخلاص بالمعالجات التي ذكرناها من إلزام النفسكراهة الرياء والإباء عن القبول
الثالثة أن يعقد على الإخلاص ثم يطرأ الرياء ودواعيهفينبغي أن يجاهد في الدفع ولا يترك العمل لكي يرجع إلى عقد الإخلاص ويرد نفسه إليهقهرا حتى يتمم العمل لأن الشيطان يدعوك أولا إلى ترك العمل فإذا لم تجب واشتغلت فيدعوكإلى الرياء فإذا لم تجب ودفعت بقي يقول لك هذا العمل ليس بخالص وأنت مراء وتعبك ضائعفأي فائدة لك في عمل لا إخلاص حتى يحملك بذلك على ترك العمل فإذا تركته فقد حصلت غرضه
ومثال من يترك العلم لخوفه أن يكون مرائيا كمن سلم إليه مولاه حنطة فيها زؤان وقالخلصها من الزؤان ونقها منه تنقية بالغة فيترك أصل العمل يقول أخاف إن اشتغلت به لمتخلص خلاصا صافيا نقيا فترك العمل من أجله هو ترك الإخلاص مع أصل العمل فلا معنى لهومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفا على الناس أن يقولوا إنه مراء فيعصون الله به فهذامن مكايد الشيطان لأنه أولا أساء الظن بالمسلمين وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك ثمإن كان فلا يضره قولهم ويفوته ثواب العبادة وترك العمل خوفا من قولهم إنه مراء هو عينالرياء فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم فماله ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنهمخلص وأي فرق بين أن يترك العمل خوفا من أن يقال إنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفامن أن يقال إنه غافل مقصر بل ترك العمل أشد من ذلك فهذه كلها مكايد الشيطان على العبادالجهال ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقولله الآن يقول الناس إنك تركت العمل ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة فيضطرك بذلك إلىأن تهرب فإن هربت ودخلت سربا تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة الناس لتزهدك وهربكمنهم وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه بل لا نجاة منه إلا بأن تلزم قلبكمعرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في الدنيا ليلزم الكراهة والإباءقلبك وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي وإن نزغ العدو نازغ الطبع فإن ذلك لا ينقطعوترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك الخيرات فما دمت تجد باعثا دينيا على العملفلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء وألزم قلبك الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أنتستبدل بحمده حمد المخلوقين وهو مطلع على قلبك ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهملمقتوك بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل فإن قال لكالشيطان أنت مراء فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء وإبائه وخوفكمنه وحيائك من الله تعالى وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفا ولم يبق باعث دينيبل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد فمن شرع في العمل لله فلا بد أنيبقى معه أصل قصد الثواب
فإن قلت فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة؟ روي أن إبراهيمالنخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ فأطبق المصحف وترك القراءة وقال لا يرى هذا أنا نقرأكل ساعة وقال إبراهيم التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم وقالالحسن إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة وكان أحدهم يأتيهالبكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة وقد ورد في ذلك آثار كثيرة ؟
قلنا هذا يعارضه ماورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقربإلى خوف الشهرة من البكاء وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه وبالجملة ترك النوافلجائز والكلام في الأفضل والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء فالأفضل أن يتممالعمل ويجتهد في الإخلاص ولا يتركه وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضللشدة الخوف فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء
وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكنأن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغالبمكالمته فرأى أن لا يراه في القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال بهحتى يعود إليه بعد ذلك
وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبالالناس عليه وشغلهم إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق فيكون ترك ذلك للمحافظةعلى عبادات هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء
وأما قول التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكتيجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام كالفصاحة في الحكايات وغيرها فإن ذلك يورث العجبوكذلك العجب بالسكوت المباح محذور فهو عدول عن مباح إلى مباح حذرا من العجب
فأما الكلامالحق المندوب إليه فلم ينص عليه على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو واقع في القسمالثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس ولا تعظم فيهالآفات ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوالالضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ولا يدركون هذه الدقائق وإنما ذكره تخويفا للناس منآفة الشهرة وزجرا من طلبها
القسم الثاني
ما يتعلق بالخلق وتعظم فيه الآفات والأخطاروأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ثم إنفاق المال
أما الخلافةوالإمارة فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص وقد قال النبي صلى اللهعليه وسلم ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما(1) فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة وقال صلى الله عليه وسلمأول من يدخل الجنة ثلاثة الإمام المقسط (2) أحدهم وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا ترددعوتهم الإمام العادل وقال صلى الله عليه وسلم أقرب الناس مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل (3) فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات ولم يزل المتقون يتركونهاويحترزون منها ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر إذ تتحرك بها الصفات الباطنةويغلب النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا فإذا صارت الولايةمحبوبة كان الوالي ساعيا في حظ نفسه ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما يقدح في جاههوولايته وإن كان حقا ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلا وعند ذلك يهلك ويكونيوم من سلطان جائر شرا من فسق ستين سنة بمفهوم الحديث الذي ذكرناه
ولهذا الخطر العظيمكان عمر رضي الله عنه يقول من يأخذها بما فيها وكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليهوسلم ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه أطلقه عدله أو أوبقهجوره (4) رواه معقل بن يسار وولاه عمرولاية فقال يا أمير المؤمنين أشر علي قال اجلس واكتم علي
وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم ياعبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عنمسألة وكلت إليها (5) وقال أبوبكر رضي الله عنه لرافع بن عمر لا تأمر على اثنين ثم ولي هو الخلافة فقام بها فقالله رافع ألم تقل لي لا تأمر على اثنين وأنت قد وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلمفقال بلى وأنا أقول لك ذلك فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله يعني لعنة الله
ولعل القليلالبصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضا وليس كذلك بل الحقفيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات وأن الضعفاءلا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا ولا يستفزه الطمعولا تأخذه في الله لومة لائم وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم وزهدوا في الدنيا وتبرموابها وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم فهؤلاء لا يحركهمإلا الحق ولا يسكنهم إلا الحق ولو زهقت فيهم أرواحهم فهم أهل نيل الفضل في الإمارةوالخلافة ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات ومن جرب نفسه فرآهاصابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولايات ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقتلذة الولاية وأن تستحلي الجاه وتستلذ نفاذ الأمر فتكره العزل فيداهن خيفة من العزلفهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية فقال قائلون لا يجب لأنهذا خوف أمر في المستقبل وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق وترك لذاتالنفس
والصحيح أن عليه الاحتراز لأن النفس خداعة مدعية للحق واعدة بالخير فلو وعدتبالخير جزما لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية فكيف إذا أظهرت التردد والامتناععن قبول الولاية أهون من العزل بعد الشروع فالعزل مؤلم وهو كما قيل العزل طلاق الرجالفإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل وتميل نفسه إلى المداهنة وإهمال الحق وتهوى به في قعرجهنم ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهرا وكان فيه عذاب عاجل على كلمحب للولاية ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشرولذلك قال صلى الله عليه وسلم إنا لا نولي أمرنا من سألنا حديث إنا لا نولي أمرنا منسألنا متفق عليه من حديث أبي موسى
فإذا فهمت اختلاف حكم القوي والضعيف علمت أن نهيأبي بكر رافعا عن الولاية ثم تقلده لها ليس بمتناقض وأما القضاء فهو وإن كان دون الخلافةوالإمارة فهو في معناهما فإن كل ذي ولاية أمير أي له أمر نافذ والإمارة محبوبة بالطبعوالثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق والعقاب فيه أيضا عظيم مع العدول عن الحق وقدقال النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة (6)
وقال صلىالله عليه وسلم من استقضى فقد ذبح بغير سكين(7) فحكمه حكم الإمارة ينبغي أن يتركه الضعفاء وكل من للدنيا ولذاتها وزن في عينهوليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ومهما كان السلاطين ظلمة ولميقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهمإذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم يطيعوه فليس له أن يتقلد القضاء وإن تقلدفعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف العزل عذرا مرخصا له في الإهمال أصلا بل إذاعزل سقطت العهدة عنه فينبغي أن يفرح بالعزل إن كان يقضي لله فإن لم تسمح نفسه بذلكفهو إذن يقضي لاتباع الهوى والشيطان فكيف يرتقب عليه ثوابا وهو مع الظلمة في الدركالأسفل من النار
وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العاليةوكل ما يتسع بسببه الجاه ويعظم به القدر فآفته أيضا عظيمة مثل آفة الولايات وقد كانالخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما وجدوا إليه سبيلا وكانوا يقولون حدثنا باب منأبواب الدنيا ومن قال حدثنا فقد قال أوسعوا لي ودفن بشر كذا وكذا قمطرا من الحديث وقاليمنعني من الحديث أني أشتهي أن أحدث ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت
والواعظ يجد في وعظهوتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم وإقبالهم عليه لذة لا توازيها لذة فإذاغلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلا ويفر عنكل كلام يستثقله العوام وإن كان حقا ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوامويعظم منزلته في قلوبهم فلا يسمع حديثا وحكمة إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأنيذكره على رأس المنبر وكان ينبغي أن يكون فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة وطريقسلوك سبيل الدين ليعمل به أولا ثم يقول إذا أنعم الله بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمةفأقصها ليشاركني في نفعها إخواني المسلمون فهذا أيضا مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمهحكم الولايات فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والمنزلة والأكل بالدين والتفاخر والتكاثرفينبغي أن يتركه ويخالف الهوى فيه إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن علىنفسه الفتنة فعند ذلك يعود إليه
فإن قلت مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلومواندرست وعم الجهل كافة الخلق ؟؟فنقول قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارةوتوعد عليها حتى قال إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة وندامة يومالقيامة إلا من أخذها بحقها (8)
وقال نعمتالمرضعة وبئست الفاطمة (9) ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعا وثار القتال بين الخلقوزال الأمن وخربت البلاد وتعطلت المعايش فلم نهي عنها مع ذلك؟
وضرب عمر رضي الله عنهأبي بن كعب رأى قوما يتبعونه وهو في ذلك يقول أبي سيد المسلمين وكان يقرأ عليه القرآنفمنع من أن يتبعوه وقال ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع وعمر كان بنفسه يخطبويعظ ولا يمتنع منه
واستأذن رجل عمر أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنعه فقالأتمنعني من نصح الناس فقال أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا إذ رأى فيه مخايل الرغبةفي جاه الوعظ وقبول الخلق والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريسوالفتوى وفي كل واحد منهما فتنة ولذة فلا فرق بينهما
فأما قول القائل نهيك عن ذلك يؤديإلى اندراس العلم فهو غلط إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القضاء لم يؤد إلىتعطيل القضاء (10) بل الرياسةوحبها يضطر الخلق إلى طلبها وكذلك حب الرياسة لا يترك العلومتندرس بل لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال من طلب العلوم التي فيها القبول والرياسةلأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لاخلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس فإن الله لا يضيعهم وانظر لنفسك
ثم إني أقول معهذا إذا كان في البلد جماعة يقومون بالوعظ مثلا فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهموإلا فليعلم أن كلهم لا يمتنعون ولا يتركون لذة الرياسة فإن لم يكن في البلد إلا واحدوكان وعظه نافعا للناس من حيث حسن كلامه وحسن سمعته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنهإنما يريد الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ومعرض عنها فلا نمنعه منه ونقول له اشتغل وجاهدنفسك فإن قال لست أقدر على نفسي فنقول اشتغل وجاهد لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناسكلهم إذ لا قائم به غيره ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده وسلامة دين الجميع أحبعندنا من سلامة دينه وحده فنجعله فداء للقوم ونقول لعل هذا هو الذي قال فيه رسول اللهصلى الله عليه وسلم إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم(11)
ثم الواعظ هو الذي يرغب فيالآخرة ويزهد في الدنيا بكلامه وبظاهر سيرته فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار منالكلمات المزخرفة والألفاظ المسجعة المقرونة بالأشعار مما ليس فيه تعظيم لأمر الدينوتخويف المسلمين بل فيه الترجية والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت فيجب إخلاء البلادمنهم فإنهم نواب الدجال وخلفاء الشيطان وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ جميل الظاهريبطن في نفسه حب القبول ولا يقصد غيره
وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الواردفي حق علماء السوء ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله
فإن قلتفهذه الآفات ظاهرة ولكن ورد في العلم والوعظ رغائب كثيرة حتى قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من الدنيا وما فيها(12) وقال صلى الله عليه وسلم أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليهكان له أجره وأجر من اتبعه (13)إلى غير ذلك من فضائل العلم فينبغيأن يقال للعالم اشتغل بالعلم واترك مراءاة الخلق كما يقال لمن خالجه الرياء في الصلاةلا تترك العمل ولكن أتمم العمل وجاهد نفسك؟؟
فاعلم أن فضل العلم كبير وخطره عظيم كفضلالخلافة والإمارة ولا نقول لأحد من عباد الله اترك العلم إذ ليس في نفس العلم آفة وإنماالآفة في إظهاره بالتصدي للوعظ والتدريس ورواية الحديث ولا نقول له أيضا اتركه ما داميجد في نفسه باعثا دينيا ممزوجا بباعث الرياء أما إذا لم يحركه إلا الرياء فترك الإظهارأنفع له وأسلم وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها أما إذا خطرله وساوس الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره فلا يترك الصلاة لأن آفة الرياء في العباداتضعيفة وإنما تعظم في الولايات وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم وبالجملة فالمراتبثلاث::
الأولى الولايات
والآفات فيها عظيمة وقد تركها جماعة من السلف خوفا من الآفة
الثانيةالصوم الصلاة والحج والغزو
وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم ولم يؤثر عنهم التركلخوف الآفة وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنىقوة
الثالثة وهي متوسطة بين الرتبتين وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية والتدريسوالآفات فيها أقل مما في الولايات وأكثر مما في الصلاة فالصلاة ينبغي أن لا يتركهاالضعيف والقوي ولكن يدفع خاطر الرياء والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء رأسا دون الأقوياءومناصب العلم بينهما ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولاة أشبه وأن الحذر منه فيحق الضعيف أسلم والله أعلم
وهنا رتبة رابعة وهي جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقينفإن في الإنفاق وإظهار السخاء استجلابا للثناء وفي إدخال السرور على قلوب الناس لذةللنفس والآفات فيها أيضا كثيرة ولذلك سئل الحسن عن رجل طلب القوت ثم أمسك وآخر طلبفوق قوته ثم تصدق به فقال القاعد أفضل لما يعرفون من قلة السلامة في الدنيا وأن منالزهد تركها قربة إلى الله تعالى وقال أبو الدرداء ما يسرني أنني أقمت على درج مسجددمشق أصيب كل يوم خمسين دينارا أتصدق بها أما إني لا أحرم البيع والشراء ولكني أريدأن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
وقد اختلف العلماء فقال قومإذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو أفضل من أن يشتغل بالعبادات والنوافلوقال قوم الجلوس في دوام ذكر الله أفضل والأخذ والإعطاء يشغل عن الله وقد قال المسيحعليه السلام يا طالب الدنيا ليبر بها تركك لها أبر وقال أقل ما فيه أن يشغله إصلاحهعن ذكر الله وذكر الله أكبر وأفضل وهذا فيمن سلم من الآفات
فأما من يتعرض لآفة الرياءفتركه لها أبر والاشتغال بالذكر لا خلاف في أنه أفضل وبالجملة ما يتعلق بالخلق وللنفسفيه لذة فهو مثار الآفات والأحب أن يعمل ويدفع الآفات فإن عجز فلينظر وليجتهد وليستفتقلبه وليزن ما فيه من الخير بما فيه من الشر وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميلإليه الطبع وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه لأن النفس لا تشيرإلا بالشر وقلما تستلذ الخير وتميل إليه وإن كان لا يبعد ذلك أيضا في بعض الأحوال وهذهأمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات فهو موكول إلى اجتهاد القلب لينظر فيهلدينه ويدع ما يريبه إلى مالا يريبه ثم قد يقع مما ذكرناه غرور للجاهل فيمسك المالولا ينفقه خيفة من الآفة وهو عين البخل ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلاعن الصدقات أفضل من إمساكه
وإنما الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب أن الأفضل الكسب والإنفاقأو التجرد للذكر وذلك لما في الكسب من الآفات فأما المال الحاصل من الحلال فتفرقتهأفضل من إمساكه بكل حال
فإن قلت فبأي علامة تعرف العالم والواعظ أنه صادق مخلص في وعظهغير مريد رياء الناس ؟
فاعلم أن لذلك علامات:
إحداها أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظا أوأغزر منه علما والناس له أشد قبولا فرح به ولم يحسده نعم لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنىلنفسه مثل علمه
والأخرى أن الأكابر إذا حضروا مجلسه لم يتغير كلامه بل بقي كما كانعليه فينظر إلى الخلق بعين واحدة
والأخرى أن لا يحب اتباع الناس له في الطريق والمشيخلفه في الأسواق ولذلك علامات كثيرة يطول إحصاؤها
وقد روي عن سعيد بن أبي مروان قالكنت جالسا إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو علىبرذون أصفر فدخل المسجد على برذونه فجعل يلتفت في المسجد فلم يرى حلقة أحفل من خلقهالحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريبا منها ثم ثنى وركه فنزل ومشى نحو الحسن فلما رآه الحسنمتوجها إليه تجافى له عن ناحية مجلسه قال سعيد وتجافيت له أيضا عن ناحية مجلسي حتىصار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه والحسن يتكلمبكلام له يتكلم به في كل يوم فما قطع الحسن كلامه قال سعيد فقلت في نفسي لأبلون الحسناليوم ولأنظرن هل يحمل الحسن جلوس الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحملالحسن هيبة الحجاج أن ينقص من كلامه فتكلم الحسن كلاما واحدا نحوا مما كان يتكلم بهفي كل يوم حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترث به رفع الحجاجيده فضرب بها على منكب الحسن ثم قال صدق الشيخ وبر فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوهاحلقا وعادة فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة ولولا ما حملناه من أمر الناسما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها
قال ثم افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسنومن حضر من بلاغته فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من أهل الشام إلى مجلس الحسن حين قامالحجاج فقال عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل شيخ كبير وأني أغزو فأكلف فرساوبغلا وأكلف فسطاطا وأن لي ثلثمائة درهم من العطاء وأن لي سبع بنات من العيال فشكامن حاله حتى رق الحسن له ولأصحابه والحسن مكب فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسهفقال ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا وقتلوا الناس على الديناروالدرهم فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة وإذا أغزىأخاه أغزاه طاويا راجلا فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده فقام رجل من أهلالشام كان جالسا إلى الحسن فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه فلم يلبث الحسن أن أتتهرسل الحجاج فقالوا أجب الأمير فقام الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلميلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم وقلما رأيته فاغرا فاه يضحك إنما كان يتبسمفأقبل حتى قعد في مجلسه فعظم الأمانة وقال إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانةليست إلا في الدينار والدرهم إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبهثم ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار إني أتيت هذا الرجل فقال أقصر عليك من لسانك وقولكإذا غزا عدو الله غزا كذا وكذا وإذا أغزى أخاه أغزاه كذا لا أبالك تحرض علينا الناسأما إنا على ذلك لانتهم نصيحتك فأقصر عليك من لسانك قال فدفعه الله عني وركب الحسنحمارا يريد المنزل فبينما هو يسير إذا التفت فرأى قوما يتبعونه فوقف فقال هل لكم منحاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما يبقى هذا من قلب العبد
فبهذه العلامات وأمثالهاتتبين سريرة الباطن ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونونفاعلم أنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحمالراحمين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)حديث ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما الحديث أخرجه الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس وقد تقدم
(2)حديث أول من يدخل الجنة ثلاثة الإمام المقسط الحديث أخرجه مسلم من حديث عياض بن حماد أهل الجنة ثلاث ذو سلطان مقسط الحديث ولم أر فيه ذكر الأولية
(3)حديث أبي سعيد الخدري أقرب الناس مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من رواية عطية العوفي وهو ضعيف عنه وفيه أيضا إسحاق بن إبراهيم الديباجي ضعيف أيضا رواه أبو سعيد الخدري
(4)حديث ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه لا يفكها إلا عدله أخرجه أحمد من حديث عبادة بن الصامت ورواه أحمد والبزار من رواية رجل لم يسم عن سعد بن عبادة وفيهما يزيد بن أبي زياد متكلم فيه ورواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة ورواه البزار والطبراني من حديث أبي هريرة ورواه البزار والطبراني من حديث بريدة والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس وثوبان وله من حديث أبي الدرداء ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه الحديث وقد عزى المصنف هذا الحديث لرواية معقل بن يسار والمعروف من حديث معقل بن يسار ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يرح رائحة الجنة متفق عليه
(5)حديث عبد الرحمن بن سمرة لا تسل الإمارة الحديث متفق عليه
(6)حديث القضاة ثلاثة الحديث أخرجه أصحاب السنن من حديث بريدة وتقدم في العلم وإسناده صحيح
(7)حديث من استقضى فقد ذبح بغير سكين أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة بلفظ من جعل قاضيا وفي رواية من ولى القضاء وإسناده صحيح
(8)حديث إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة يوم القيامة وندامة إلا من أخذها بحقها أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة دون قوله إلا من أخذها بحقها وزاد في آخره فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة ودون قوله حسرة وهي في صحيح ابن حبان
(9)حديث نعمت المرضعة وبئست الفاطمة أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة وهو بقية الحديث الذي قبله ورواه ابن حبان بلفظ فبئست المرضعة وبئست الفاطمة
(10)حديث النهي عن القضاء أخرجه مسلم من حديث أبي ذر لا تؤمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم
(11)حديث إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم أخرجه النسائي وقد تقدم قريبا
(12)حديث لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها متفق عليه من حديث سهل بن سعد بلفظ خير لك من حمر النعم وقد تقدم في العلم
(13)حديث أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من اتبعه أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بزيادة في أوله ولمسلم من حديث أبي هريرة من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه الحديث
تعليقات
إرسال تعليق