التخطي إلى المحتوى الرئيسي

امثلة للغرور بالله


 ولنذكر للغرور بالله مثالين من غرور الكافرين والعاصين فأما غرور الكفار بالله فمثاله قول بعضهم في أنفسهم وبألسنتهم إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا ونحن أوفر حظا فيه وأسعد حالا كما أخبر الله تعالى عنه من قول الرجلين المتحاورين إذ قال وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا  وكذلك وصف الله تعالى قول العاص ابن وائل إذ يقول لأوتين مالا وولدا فقال الله تعالى ردا عليه أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا
وروى عن خباب بن الأرت أنه قال كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقض لي فقلت إني آخذه في الآخرة فقال لي إذا صرت إلى الآخرة فإن لي هناك مالا وولدا أقضيك منه فأنزل الله تعالى قوله أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا وقال الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعض ضراء مسته ليقولون هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى وهذا كله من الغرور بالله وسببه قياس من أقيسة إبليس نعوذ بالله منه وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعمة الآخرة وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم فيقيسون عليه عذاب الآخرة كما قال تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول فقال تعالى جوابا لقولهم حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء شعث غبر فيزدرون بهم ويستحقرونهم فيقولون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ويقولون لو كان خيرا ما سبقونا إليه وترتيب القياس الذي نظمهم في قلوبهم أنهم يقولون قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا وكل محسن فهو محب وكل محب فإنه يحسن أيضا في المستقبل كما قال الشاعر
                       لقد أحسن الله فيما مضى       كذلك يحسن فيما بقى
 وإنما يقيس المستقبل على الماضي بواسطة الكرامة والحب إذ يقول لولا أني كريم عند الله ومحبوب لما أحسن إلي والتلبيس تحت ظنه أن كل محسن محب لا بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل لا يدل على الكرامة بل عند ذوي البصائر يدل على الهوان ومثاله أن يكون للرجل عبدان صغيران يبغض أحدهما ويحب الآخر فالذي يحبه يمنعه من اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه الأدب ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة التي تضره ويسقيه الأدوية التي تنفعه والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد فيلعب ولا يدخل المكتب ويأكل كل ما يشتهي فيظن هذا العبد المهمل أنه عند سيده محبوب كريم لأنه مكنه من شهواته ولذاته وساعده على جميع أغراضه فلا يمنعه ولم يحجر عليه وذلك محض الغرور
وهكذا نعيم الدنيا ولذتها فإنها مهلكات ومبعدات من الله فإن الله يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه  هكذا ورد في الخبر عن سيد البشر وكان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا ذنب عجلت عقوبته ورأوا ذلك علامة المقت والإهمال وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا مرحبا بشعار الصالحين والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان كما أخبر الله تعالى عنه إذ قال فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن فأجاب الله عن ذلك كلا أي ليس كما قال إنما هو ابتلاء نعوذ بالله من شر البلاء ونسأل الله التثبيت فبين أن ذلك غرور قال الحسن كذبهما جميعا بقوله كلا يقول ليس هذا بإكرامي ولا هذا بهواني ولكن الكريم من أكرمته بطاعتي غنيا كان أو فقيرا والمهان من أهنته بمعصيتي غنيا كان أو فقيرا وهذا الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان إما بالبصيرة أو بالتقليد أما البصيرة فبأن يعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعد عن الله ووجه كون التباعد عنها مقربا إلى الله ويدرك ذلك بالإلهام في منازل العارفين والأولياء وشرحه من جملة علوم المكاشفة ولا يليق بعلم المعاملة وأما معرفته بطريق التقليد والتصديق فهو أن يؤمن بكتاب الله تعالى ويصدق رسوله وقد قال تعالى أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وقال تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وقال تعالى فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون وفي تفسير قوله تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون أنهم كلما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة ليزيد غرورهم وقال تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقال تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله فمن آمن به تخلص من هذا الغرور فإن منشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته فإن من عرفه لا يأمن مكره ولا يغتر بأمثال هذه الخيالات الفاسدة وينظر إلى فرعون وهامان وقارون وإلى ملوك الأرض وما جرى لهم كيف أحسن الله إليهم ابتداء ثم دمرهم تدميرا فقال تعالى هل تحس منهم من أحد الآية وقد حذر الله تعالى من مكره واستدراجه فقال فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وقال تعالى ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون وقال عز وجل ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقال تعالى إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا فكما لا يجوز للعبد المهمل أن يستدل بإهمال السيد إياه وتمكينه من النعم على حب السيد بل ينبغي أن يحذر أن يكون ذلك مكرا منه وكيدا مع أن السيد لم يحذره مكر نفسه فبأن يجب ذلك في حق الله تعالى مع تحذيره استدراجه أولى فإذن من أمن مكر الله فهو مغتر ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم واحتمل أن يكون ذلك دليل الهوان ولكن ذلك الاحتمال لا يوافق الهوى فالشيطان بواسطة الهوى يميل بالقلب إلى ما يوافقه وهو التصديق بدلالته على الكرامة وهذا هو حد الغرور المثال الثاني غرور العصاة من المؤمنين بقولهم إن الله كريم وإنا نرجو عفوه واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم رجاء وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين وأن نعمة الله واسعة ورحمته شاملة وكرمه عميم وأين معاصي العباد في بحار رحمته وإنا موحدون ومؤمنون فنرجوه بوسيلة الإيمان وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الأباء وعلو رتبتهم كاغترار العلوية بنسبهم ومخالفة سيرة آبائهم في الخوف والتقوى والورع وظنهم أنهم أكرم على الله من آبائهم إذا آباؤهم مع غاية الورع والتقوى كانوا خائفين وهم مع غاية الفسق والفجور آمنون وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى فقياس الشيطان للعلوية أن من أحب إنسانا أحب أولاده وأن الله قد أحب آباءكم فيحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعة وينسى المغرور أن نوحا عليه السلام أراد أن يستصحب ولده معه في السفينة فلم يرد فكان من المغرقين فقال رب إن ابني من أهلي فقال تعالى يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح وأن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه فلم ينفعه وأن نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى استأذن ربه في أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في الاستغفار فجلس يبكي على قبر أمه لرقته لها بسبب القرابة حتى أبكى من حوله حديث أنه صلى الله عليه وسلم استأذن أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له الاستغفار الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة فهذا أيضا اغترار بالله تعالى وهذا لأن الله تعالى يحب المطيع ويبغض العاصي فكما أنه لا يبغض الأب المطيع ببغضه للولد العاصي فكذلك لا يحب الولد العاصي بحبه للأب المطيع ولو كان الحب يسري من الأب إلى الولد لأوشك أن يسري البغض أيضا بل الحق أن لا تزر وازرة وزر أخرى ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه ويصير عالما بتعلم أبيه ويصل إلى الكعبة ويراها بمشي أبيه فالتقوى فرض عين فلا يجزى فيه والد عن ولده شيئا وكذا العكس وعند الله جزاء التقوى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه إلا على سبيل الشفاعة لمن لم يشتد غضب الله عليه فيأذن في الشفاعة له كما سبق في كتاب الكبر والعجب فإن قلت فأين الغلط في قول العصاة والفجار إن الله كريم وإنا نرجو رحمته ومغفرته وقد قال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في القلوب فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن ذلك فقال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله  وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه رجاء حتى خدع به الجهال وقد شرح الله الرجاء فقال إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال قال الله تعالى جزاء بما كانوا يعملون وقال تعالى وإنما توفون أجوركم يوم القيامة أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان الشارط كريما يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد فجاء الأجير وكسر الأواني وأفسد جميعها ثم جلس ينتظر الأجر ويزعم أن المستأجر كريم أفيراه العقلاء في انتظاره متمنيا مغرورا أو راجيا وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة قيل للحسن قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل فقال هيهات هيهات تلك أمانيهم يترجحون فيها من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه وقال مسلم بن يسار لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي فقال له رجل إنا لنرجو الله فقال مسلم هيهات هيهات من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه وكما أن الذي يرجو في الدنيا ولدا وهو بعد لم ينكح أو نكح ولم يجامع أو جامع ولم ينزل فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن ولم يعمل صالحا أو عمل ولم يترك المعاصي فهو مغرور فكما أنه إذا نكح ووطئ وأنزل بقي مترددا في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق الولد ودفع الآفات عن الرحم وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس فكذلك إذا آمن وعمل الصالحات وترك السيئات وبقي مترددا بين الخوف والرجاء يخاف أن لا يقبل منه وأن لا يدوم عليه وأن يختم له بالسوء ويرجو من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ دينه من صواعق سكرات الموت حتى يموت على التوحيد ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ولتعلمن نبأه بعد حين وعند ذلك يقولون كما أخبر الله عنهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون أي علمنا أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر فكذلك لا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا نعمل صالحا فقد علمنا الآن صدقك في قولك وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده وأنه توفى كل نفس ما كسبت وأن كل نفس بما كسبت رهينة فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير فإن قلت فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود فاعلم أنه محمود في موضعين أحدهما في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان وأنى تقبل توبتك فيقنطه من رحمة الله تعالى فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر إن الله يغفر الذنوب جميعا وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب قال الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم أمرهم بالإنابة وقال تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور كما أن من ضاق عليه وقت الجمعة وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان إنك لا تدرك الجمعة فأقم على موضعك فكذب الشيطان ومر يعدو وهو يرجو أن يدرك الجمعة فهو راج وإن استمر على التجارة وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو لأجل غيره أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها فهو مغرور الثاني أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجى نفسه نعيم الله تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل ويتذكر قوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون إلى قوله أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من التوبة والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء وكل رجاء أوجب فتورا في العبادة وركونا إلى البطالة فهو غرة كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل فيقول له الشيطان مالك ولإيذاء نفسك وتعذيبها ولك رب كريم غفور رحيم فيفتر بذلك عن التوبة والعبادة فهو غرة وعند هذا واجب على العبد أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ويقول إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب وإنه مع أنه كريم خلد الكفار في النار أبد الآباد مع أنه لم يضره كفرهم بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا وهو قادر على إزالتها فمن هذه سنته في عباده وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل فما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا وسبب إعراضهم عن الله تعالى وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور فقد أخبر صلى الله عليه وسلم وذكر أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة حديث إن الغرور يغلب على آخر هذه الأمة تقدم في آخر ذم الكبر والعجب وهو حديث أبي ثعلبة في إعجاب كل ذي رأي برأيه وقد كان ما وعد به صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله راجون لعفوه ومغفرته كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه معقل بن يسار يأتي على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان أمرهم كله يكون طمعا لا خوف معه إن أحسن أحدهم قال يتقبل مني وإن أساء قال يغفر لي حديث معقل بن يسار يأتي على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس نحوه بسند فيه جهالة ولم أره من حديث معقل فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه وبمثله أخبر عن النصارى إذ قال تعالى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ومعناه أنهم ورثوا الكتاب أي هم علماء ويأخذون عرض هذا الأدنى أي شهواتهم من الدنيا حراما كان أو حلالا وقد قال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمنا بما فيه وترى الناس يهذونه هذا يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرءون شعرا من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا فهذه أمثلة الغرور بالله وبيان الفرق بين الرجاء والغرور ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر وهذا غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما يتناول من أموال المسلمين والشبهات أضعافه ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين وهو يتكل عليه ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال وما هو إلا كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان وفي الكفة الأخرى ألفا وأراد أن يرفع الكفة الثقيلة بالكفة الخفيفة وذلك غاية جهله نعم ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيه وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من غير حصر وعدد ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة وغفل عن هذيانه طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة أو ألف مرة وقد كتبه الكرام الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد فهذا أبدأ يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه إلى غير ذلك من آفات اللسان وذلك محض الغرور ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يكتبونه من هذيانه الذي زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة من مهماته وما نطق به في فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه فيا عجبا لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفا على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ولا يحتاط خوفا من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها لقد دفعنا إلى أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور على القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالا على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
>حديث خباب بن الأرت قال كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه الحديث في نزول قوله تعالى أفرأيت الذي كفر بآياتنا الآية أخرجه البخاري ومسلم 
>حديث إن الله يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه الحديث أخرجه الترمذي وحسنه و الحاكم وصححه من حديث قتادة بن النعمان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اكواد اسلامية html

اكواد اسلامية html اقدم لكم اخوتى فى الله أكوادا اسلامية مهمة جدا لمدونتك تجعلها جذابة        جعل الله ذلك فى ميزان حسناتك ********** طريقة وضع الكود فى مدونات قوقل (بلوجز) من اعلى الصفحة اضغط تصميم أختر اضافة أداة ثم أختر HTML/javascript ضع الكود فى المحتوى ثم اضغط على حفظ ***************    كود اناشيد اسلامية انسخ الكود التالي <center><iframe align="center" id="IW_frame_1438" src=" http://www.tvanashed.com/add/index.htm " frameborder="0" allowtransparency="1" scrolling="no" width="302" height="334"></iframe></center> كود القران الكريم <div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"> <span class="Apple-style-span" style="color: #887766; font-family: Arial, sans-serif; font-size: small;"><span class="Apple-style-span" style="font-size: 12px;"><span class="Apple-style-span" style...

المبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي

  والمبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي ، استوعب فيه المؤلف جميع أبواب الفقه بأسلوب سهل ، وعبارة واضحة ، وبسط في الأحكام والأدلة والمناقشة ، مع المقارنة مع بقية المذاهب ، وخاصة المذهب الشافعي والإمام مالك ، وقد يذكر مذهب الإمام أحمد والظاهرية . وطريقة المبسوط أن يذكر المؤلف المسألة الفقهية ، ويبين حكمها على المذهب الحنفي ، ثم يستدل لها ، ثم يذكر آراء بعض المذاهب المخالفة ، ويشرح أدلتها ، ثم يناقش الأدلة ، ويرد عليها بما يراه الحق ، وقد يجمع بين أدلة الحنفية وأدلة المذاهب الأخرى المخالفين لهم جمعا حسنا ، يبعد التعارض . وهذا الكتاب شرح لكتاب " الكافي " للحاكم الشهيد محمد بن محمد المروزي ( 334هـ ) إمام الحنفية في وقته ، وقد جمع في " الكافي " كتب ظاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن في فروع المذهب الحنفي . والمبسوط كتاب قيم ومفيد ، وهو أوسع الكتب المطبوعة في الفقه الحنفي ، والفقه المقارن ، ويعتمد عليه الحنفية في القضاء والفتوى ، وفي التدريس والتصنيف . وكان السرخسي قد ألفه كله أو جله إملاء من ذاكرته ، وهو سجين في بئر في أوزجند بفرغانه ، وقال في مقدمته : " فرأيت ال...