التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بيان تفصيل آفات المال وفوائده




 اعلم أن المال مثل حية فيها سم وترياق ففوائده ترياقه وغوائله سمومه فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره أما الفوائد فهي تنقسم إلى دنيوية ودينية أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها وأما الدينية فتنحصر جميعها في ثلاثة أنواع
 النوع الأول
 أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة أما في العبادة فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال وهما من أمهات القربات والفقير محروم من فضلهما وأما فيما يقويه على العبادة فذلك هو المطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات
المعيشة فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفا إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة فأخذ الكفاية من الدنيا لأجل الاستعانة على الدين من الفوائد الدينية ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة على الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط
النوع الثاني ما يصرفه إلى الناس وهو أربعة أقسام الصدقة والمروءة ووقاية العرض وأجرة الاستخدام أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وإنها لتطفيء غضب الرب تعالى وقد ذكرنا فضلها فيما تقدم وأما المروءة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة وما يجري مجراها فإن هذه لا تسمى صدقة بل الصدقة ما يسلم إلى المحتاج إلا أن هذا من الفوائد الدينية إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء وبه يكتسب صفة السخاء ويلتحق بزمرة الأسخياء فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل المروءة والفتوة وهذا أيضا مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا والضيافات وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها
وأما وقاية العرض فنعني به بذل المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء وقطع ألسنتهم ودفع شرهم وهو أيضا مع تنجز فائدته بالعاجلة من الحظوظ الدينية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة حديث ما وقى به المرء عرضه به فهو صدقة رواه أبو يعلى من حديث جابر وقد تقدم وكيف لا وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكافئة والانتقام على مجاوزة حدود الشريعة
وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين ومن لا مال له فيفتقر إلى أن يتولى بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام وطحنه وكنس البيت حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه وكل ما يتصور أن يقوم به غيرك ويحصل به غرضك فأنت متعوب إذا اشتغلت به إذ عليك من العلم والعمل والذكر والفكر ما لا يتصور أن يقوم به غيرك فتضييع الوقت في غيره خسران 
النوع الثالث
 ما لا يصرفه إلى إنسان معين ولكن يحصل به خير عام كبناء المساجد والقناطر والرباطات ودور المرضى ونصب الجباب في الطريق وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات وهي من الخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية وناهيك بها خيرا
 فهذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر والوصول إلى العز والمجد بين الخلق وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء والوقار والكرامة في القلوب فكل ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية
وأما الآفات فدينية ودنيوية وأما الدينية فثلاث
الأولى أن تجر إلى المعاصي فإن الشهوات متفاضلة والعجز قد يحول بين المرء والمعصية ومن العصمة أن لا يجد ومهما كان الإنسان آيسا عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته فإذا استشعر القدرة عليها انبعثت داعيته والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة إذ الصبر مع القدرة أشد وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء
الثانية أنه يجر إلى التنعم في المباحات وهذا أول الدرجات فمتى يقدر صاحب المال على أن يتناول خبز الشعير ويلبس الثوب الخشن ويترك لذائذ الأطعمة كما كان يقدر عليه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في ملكه فأحسن أحواله أن لا يتنعم بالدنيا ويمرن عليها نفسه فيصير التنعم مألوفا عنده ومحبوبا لا يصبر عنه ويجره البعض منه إلى البعض فإذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في المراءاة والمداهنة والكذب والنفاق وسائر الأخلاق الرديئة لينتظم له أمر دنياه ويتيسر له تنعمه فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس ومن احتاج إلى الناس فلا بد وأن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم فإن سلم الإنسان من الآفة الأولى وهي مباشرة الحظوظ فلا يسلم عن هذه أصلا ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة وينشأ عنه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والنميمة والغيبة وسائر المعاصي التي تخص القلب واللسان ولا يخلو عن التعدي أيضا إلى سائر الجوارح وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه
 الثالثة وهي التي لا ينفك عنها أحد وهو أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى وكل ما شغل العبد عن الله فهو خسران ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام في المال ثلاث آفات أن يأخذه من غير حله فقيل إن أخذه من حله فقال يضعه في غير حقه فقيل إن وضعه في حقه فقال يشغله إصلاحه عن الله تعالى وهذا هو الداء العضال فإن أصل العبادات ومخها وسرها ذكر الله والتفكر في جلاله وذلك يستدعي قلبا فارغا وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكرا في خصومة الفلاح ومحاسبته وفي خصومة الشركاء ومنازعتهم في المال والحدود وخصومة أعوان السلطان في الخراج وخصومة الأجراء على التقصير في العمارة وخصومة الفلاحين في خيانتهم وسرقتهم وصاحب التجارة يكون متفكرا في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل وتضييعه للمال وكذلك صاحب المواشي وهكذا سائر أصناف الأموال وأبعدها عن كثرة الشغل النقد المكنوز تحت الأرض ولا يزال الفكر مترددا فيما يصرف إليه وفي كيفية حفظه وفي الخوف مما يعثر عليه وفي دفع أطماع الناس عنه وأودية أفكار الدنيا لا نهاية لها والذي معه قوت يومه في سلامة من جميع ذلك فهذه جملة الآفات الدنيوية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه فإذن ترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات نسأل الله تعالى السلامة وحسن العون بلطفه وكرمه أنه على ذلك قدير

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي

  والمبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي ، استوعب فيه المؤلف جميع أبواب الفقه بأسلوب سهل ، وعبارة واضحة ، وبسط في الأحكام والأدلة والمناقشة ، مع المقارنة مع بقية المذاهب ، وخاصة المذهب الشافعي والإمام مالك ، وقد يذكر مذهب الإمام أحمد والظاهرية . وطريقة المبسوط أن يذكر المؤلف المسألة الفقهية ، ويبين حكمها على المذهب الحنفي ، ثم يستدل لها ، ثم يذكر آراء بعض المذاهب المخالفة ، ويشرح أدلتها ، ثم يناقش الأدلة ، ويرد عليها بما يراه الحق ، وقد يجمع بين أدلة الحنفية وأدلة المذاهب الأخرى المخالفين لهم جمعا حسنا ، يبعد التعارض . وهذا الكتاب شرح لكتاب " الكافي " للحاكم الشهيد محمد بن محمد المروزي ( 334هـ ) إمام الحنفية في وقته ، وقد جمع في " الكافي " كتب ظاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن في فروع المذهب الحنفي . والمبسوط كتاب قيم ومفيد ، وهو أوسع الكتب المطبوعة في الفقه الحنفي ، والفقه المقارن ، ويعتمد عليه الحنفية في القضاء والفتوى ، وفي التدريس والتصنيف . وكان السرخسي قد ألفه كله أو جله إملاء من ذاكرته ، وهو سجين في بئر في أوزجند بفرغانه ، وقال في مقدمته : " فرأيت ال

اكواد اسلامية html

اكواد اسلامية html اقدم لكم اخوتى فى الله أكوادا اسلامية مهمة جدا لمدونتك تجعلها جذابة        جعل الله ذلك فى ميزان حسناتك ********** طريقة وضع الكود فى مدونات قوقل (بلوجز) من اعلى الصفحة اضغط تصميم أختر اضافة أداة ثم أختر HTML/javascript ضع الكود فى المحتوى ثم اضغط على حفظ ***************    كود اناشيد اسلامية انسخ الكود التالي <center><iframe align="center" id="IW_frame_1438" src=" http://www.tvanashed.com/add/index.htm " frameborder="0" allowtransparency="1" scrolling="no" width="302" height="334"></iframe></center> كود القران الكريم <div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"> <span class="Apple-style-span" style="color: #887766; font-family: Arial, sans-serif; font-size: small;"><span class="Apple-style-span" style="font-size: 12px;"><span class="Apple-style-span" style