التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نشأة علم التصوف


 نشأة علم التصوف
يقول الدكتور أحمدعَلْوَشْ: (قد يتساءل الكثيرون عن السبب في عدم انتشار الدعوة إلى التصوف في صدرالإسلام، وعدم ظهور هذه الدعوة إلا بعد عهد الصحابة والتابعين ؛ والجواب عن هذا: إنهلم تكن من حاجة إليها في العصر الأول، لأن أهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع، وأربابمجاهدة وإقبال على العبادة بطبيعتهم، وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليهوسلم، فكانوا يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به في ذلك كله، فلم يكن ثمَّة ما يدعوإلى تلقينهم علماً يرشدهم إلى أمرٍ هُم قائمون به فعلاً، وإنما مثلهم في ذلك كلهكمثل العربي القُحِّ، يعرف اللغة العربية بالتوارث كابراً عن كابر؛ حتى إنه ليقرضالشعر البليغ بالسليقة والفطرة، دون أن يعرف شيئاَ من قواعد اللغة والإعراب والنظموالقريض، فمثل هذا لا يلزمه أن يتعلم النحو ودروس البلاغة، ولكن علم النحو وقواعداللغة والشعر تصبح لازمة وضرورية عند تفشي اللحن، وضعف التعبير، أو لمن يريد منالأجانب أن يتفهمها ويتعرف عليها، أو عندما يصبح هذا العلم ضرورة من ضروراتالاجتماع كبقية العلوم التي نشأت وتألفت على توالي العصور في أوقاتها المناسبة.

فالصحابة والتابعونـ وإن لم يتسموا باسم المتصوفين ـ كانوا صوفيين فعلاً وإن لم يكونوا كذلك اسماً،وماذا يراد بالتصوف أكثر من أن يعيش المرء لربه لا لنفسه، ويتحلى بالزهد وملازمةالعبودية، والإقبال على الله بالروح والقلب في جميع الأوقات، وسائر الكمالات التيوصل بها الصحابة والتابعون من حيث الرقي الروحي إلى أسمى الدرجات فهم لم يكتفوابالإقرار في عقائد الإيمان، والقيام بفروض الإسلام، بل قرنوا الإقرار بالتذوقوالوجدان، وزادوا على الفروض الإتيان بكل ما استحبه الرسول صلى الله عليه وسلم مننوافل العبادات، وابتعدوا عن المكروهات فضلاً عن المحرمات، حتى استنارت بصائرهم،وتفجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم، وفاضت الأسرار الربانية على جوانحهم. وكذلك كانشأن التابعين وتابعي التابعين، وهذه العصور الثلاثة كانت أزهى عصور الإسلام وخيرهاعلى الإطلاق، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "خير القرونقرني هذا فالذي يليه والذي يليه" ["خير الناس قرني هذا ثم الذين يلونهم.."أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات. وفي "صحيح مسلم" في فضائلالصحابة عن ابن مسعود رضي الله عنه].

فلما تقادم العهد،ودخل في حظيرة الإسلام أُمم شتى، وأجناس عديدة، واتسعت دائرة العلوم، وتقسمتوتوزعت بين أرباب الاختصاص؛ قام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يُجيده أكثر منغيره، فنشأ ـ بعد تدوين النحو في الصدر الأول ـ علم الفقه، وعلم التوحيد، وعلومالحديث، وأصول الدين، والتفسير، والمنطق، ومصطلح الحديث، وعلم الأصول، والفرائض "الميراث"وغيرها..

وحدث بعد هذه الفترةأن أخذ التأثير الروحي يتضاءل شيئاً فشيئاً، وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال علىالله بالعبودية، وبالقلب والهمة، مما دعا أرباب الرياضة والزهد إلى أن يعملوا هُممن ناحيتهم أيضاً على تدوين علم التصوف، وإثبات شرفه وجلاله وفضله على سائرالعلوم، ولم يكن ذلك منهم احتجاجاً على انصراف الطوائف الأخرى إلى تدوين علومهم ـكما يظن ذلك خطأً بعض المستشرقين ـ بل كان يجب أن يكون سداً للنقص، واستكمالاًلحاجات الدين في جميع نواحي النشاط، مما لا بد منه لحصول التعاون على تمهيد أسبابالبر والتقوى" ["المسلم مجلة العشيرة المحمدية" عدد محرم 1376هـ. منبحث: التصوف من الوجهة التاريخية للدكتور أحمد علوش، وهو من الرواد الأوائل الذيننقلوا حقائق التصوف الإسلامي إلى اللغات الأجنبية، وقد ألف فضيلته كتاباً باللغةالإنكليزية عن التصوف الإسلامي، كان له أكبر الأثر في تصحيح الأفكار والرد علىالمستشرقين كما ألف كتابه "الجامع" عن الإسلام الذي رد فيه على التهمالمفتراة على دين الله، وكان له أثره البعيد في خدمة هذا الدين].

وقد بنى أئمةالصوفية الأولون أصول طريقتهم على ما ثبت في تاريخ الإسلام نقلاً عن الثقاتالأعلام.

أما تاريخ التصوففيظهر في فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله، فقد سئل عن أولمن أسس التصوف ؟ وهل هو بوحي سماوي ؟ فأجاب:

(أما أول منأسس الطريقة، فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدينالمحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلهاالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بيَّنها واحداً واحداً ديناً بقوله: "هذاجبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم" [جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم فيصحيحه في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه] وهو الإسلام والإيمانوالإحسان.


فالإسلام طاعة وعبادة،والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة: "أن تعبد الله كأنكتراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"...

ثم قال السيد محمدصديق الغماري في رسالته تلك: (فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة، فمنأخل بهذا المقام(الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك لتركه ركناً منأركانه. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان؛ بعد تصحيحالإسلام والإيمان) ["الانتصار لطريق الصوفية" ص 6 للمحدث محمد صديقالغماري].

قال ابن خلدون فيمقدمته:

(وهذا العلمـ يعني التصوف ـ من العلوم الشرعية الحادثة في الملَّة ؛ وأصله أن طريقة هؤلاءالقوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحقوالهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرفالدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عنالخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عامَّاً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبالعلى الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختصالمقبلون على العبادة باسم الصوفية) ["مقدمة ابن خلدون" علم التصوف ص 329].


ويعنينا من عبارةابن خلدون الفقرة الأخيرة، التي يقرر فيها أن ظهور التصوف والصوفية كان نتيجة جنوحالناس إلى مخالطة الدنيا وأهلها في القرن الثاني للهجرة، فإن ذلكمن شأنه أن يتخذ المقبلون على العبادة اسماً يميزهم عن عامة الناس الذينألهتهم الحياة الدنيا الفانية.

يقول أبو عبد اللهمحمد صديق الغماري: (ويَعْضُدُ ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ماذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب "ولاة مصر" فيحوادث سنة المائتين: إنه ظهر بالاسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف.وكذلك ما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" حاكياً عن يحيى بن أكثم فقال: إنالمأمون يوماً لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين! رجلواقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية. فهاتانالحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف. وذُكر في "كشفالظنون" أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومئة)["الانتصار لطريق الصوفية" للمحدث الغماري ص17 ـ 18].



وأورد صاحب "كشفالظنون" في حديثه عن علم التصوف كلاماً للإمام القشيري قال فيه: (اعلموا أنالمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسميةعِلْمٍ سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهمالصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عنايةبأمر الدين ـ الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكلفريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانهوتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاءالأكابر قبل المائتين من الهجرة) ["كشف الظنون" عن أسماء الكتب والفنون،لحاجي خليفة ج1/ص414].

من هذه النصوصالسابقة، يتبين لنا أن التصوف ليس أمراً مستحدثاً جديداً؛ ولكنه مأخوذ من سيرةالرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه الكرام، كما أنه ليس مستقى من أُصول لاتمت إلى الإسلام بصلة، كما يزعم أعداء الإسلام من المستشرقين وتلامذتهم الذينابتدعوا أسماءً مبتكرة، فأطلقوا اسم التصوف على الرهبنة البوذية، والكهانةالنصرانية، والشعوذة الهندية فقالوا: هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي...

يريدون بذلك تشويهاسم التصوف من جهة، واتهام التصوف بأنه يرجع في نشأته إلى هذه الأصول القديمةوالفلسفات الضالة من جهة أخرى، ولكن الإنسان المؤمن لا ينساق بتياراتهم الفكرية،ولا يقع بأحابيلهم الماكرة، ويتبين الأمور، ويتثبت في البحث عن الحقيقة، فيرى أنالتصوف هو التطبيق العملي للإسلام، وأنه ليس هناك إلا التصوف الإسلامي فحسب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اشتقاق التصوف
كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف، فمنهم من قال: (منالصوفة، لأن الصوفي مع الله تعالى كالصوفة المطروحة، لاستسلامه لله تعالى) ["إيقاظالهمم في شرح الحكم" للعلامة ابن عجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].
ومنهم من قال: (إنه من الصِّفَة، إذ جملته اتصافٌبالمحاسن، وترك الأوصاف المذمومة) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للعلامةابن عجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].
ومنهم من قال: (من الصفاء)، حتى قال أبو الفتح البستيرحمه الله تعالى:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقاً منالصوف

ولست أمنح هذا الاسم غيرَ فتىً صفا فصوفي حتى سُميالصوفي
 ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للعلامة ابنعجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].

ومنهم من قال: (من الصُفَّة، لأن صاحبه تابعٌ لأهلهافيما أثبت الله لهم من الوصف) حيث قال تعالى: {واصبِرْ نفسَك مع الذين يدعونَربَّهم...} [الكهف: 28].

وأهلُ الصُفَّة هم الرعيل الأول من رجال التصوف، فقدكانت حياتهم التعبدية الخالصة المثل الأعلى الذي استهدفه رجال التصوف في العصورالإسلامية المتتابعة.

وقيل: (من الصَّفوة) كما قال الإمام القشيري.

وقيل: (من الصَّف) فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيثحضورهم مع الله تعالى ؛ وتسابقهم في سائر الطاعات.

ومنهم من قال: (إن التصوف نسبة إلى لبس الصوف الخشن، لأنالصوفية كانوا يؤثرون لبسه للتقشف والاخشيشان).

ومهما يكن من أمر، فإن التصوف أشهر من أن يحتاج فيتعريفه إلى قياس لفظٍ، واحتياج اشتقاق.

وإنكار بعض الناس على هذا اللفظ بأنه لم يُسمع في عهدالصحابة والتابعين مردود، إذ كثيرٌ من الاصطلاحات أحدثت بعد زمان الصحابة،واستُعملت ولم تُنكَر، كالنحو والفقه والمنطق.

وعلى كلٌّ فإننا لا نهتم بالتعابير والألفاظ، بقَدْرِاهتمامنا بالحقائق والأسس. ونحن إذ ندعو إلى التصوف إنما نقصد به تزكية النفوسوصفاء القلوب، وإصلاح الأخلاق، والوصول إلى مرتبة الإحسان، نحن نسمي ذلك تصوفاً. وإنشئت فسمه الجانب الروحي في الإسلام، أو الجانب الإحساني، أو الجانب الأخلاقي، أوسمه ما شئت مما يتفق مع حقيقته وجوهره؛ إلاَّ أن علماء الأمة قد توارثوا اسمالتصوف وحقيقته عن أسلافهم من المرشدين منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، فصارعُرفاً فيهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعريف التصوف

قال القاضي شيخالإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى:

(التصوف علمتعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادةالأبدية) [على هامش "الرسالة القشيرية" ص7 توفي شيخ الإسلام زكرياالأنصاري سنة 929هـ].


ويقول الشيخ أحمدزروق رحمه الله:

(التصوف علمقصد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل، وحفظالنظام، وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول "علم التوحيد" لتحقيق المقدماتبالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان، كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسانإلى غير ذلك) ["قواعد التصوف" قاعدة 13 ص 6 لأبي العباس أحمد الشهيربزروق الفاسي، ولد سنة 846هـ بمدينة فاس، وتوفي سنة 899هـ في طرابلس الغرب].


قال سيد الطائفتينالإمام الجنيد رحمه الله:

(التصوفاستعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني) ["النصرة النبوية" للشيخ مصطفىالمدني ص22. توفي الإمام الجنيد سنة 297هـ].


وقال بعضهم:

(التصوف كلهأخلاق، فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف) ["النصرة النبوية" للشيخمصطفى المدني ص22، توفي الإمام الجنيد سنة 297هـ].


وقال أبو الحسنالشاذلي رحمه الله:

(التصوفتدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية) ["نور التحقيق" للعلامةحامد صقر ص93. توفي أبو الحسن سنة 656هـ في مصر].


وقال ابن عجيبة رحمهالله:

(التصوف: هوعلم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل،وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة) ["معراج التشوفإلى حقائق التصوف" لأحمد بن عجيبة الحسني ص4].


وقال صاحب "كشفالظنون":

(هو علميعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعاداتهم) إلى أن قال:


علم التصوف علمٌ ليسيعرفه إلا أخو فطنةٍ بالحق معروفُ

وليس يعرفه مَنْ ليسيشهده وكيف يشهد ضوءَ الشمسِ مكفوفُ

["كشف الظنون"للعلامة حاجي خليفة ج1/ص413 ـ 414].


وقال الشيخ زروق فيقواعد التصوف:

(وقد حُدَّالتصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى،وإنما هي وجوه فيه) ["قواعد التصوف" ص2].


فعماد التصوف تصفيةالقلب من أوضار المادة، وقوامه صلة الإنسان بالخالق العظيم، فالصوفي من صفا قلبهلله، وصفتْ لله معاملته، فصفت له من الله تعالى كرامته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  
أهمية التصوف
إن التكاليف الشرعيةالتي أُمر بها الإنسان في خاصة نفسه ترجع إلى قسمين: أحكام تتعلق بالأعمالالظاهرة، وأحكام تتعلق بالأعمال الباطنة، أو بعبارة أخرى: أحكام تتعلق ببدنالإنسان وجسمه، وأعمال تتعلق بقلبه.

فالأعمال الجسميةنوعان: أوامر ونواهٍ ؛ فالأوامر الإلهية هي: كالصلاة والزكاة والحج... وأماالنواهي فهي: كالقتل والزنى والسرقة وشرب الخمر...

وأما الأعمالالقلبية فهي أيضاً: أوامر ونواهٍ ؛ أما الأوامر: فكالإيمان بالله وملائكته وكتبهورسله... وكالإخلاص والرضا والصدق والخشوع والتوكل... وأما النواهي: فكالكفروالنفاق والكبر والعجب والرياء والغرور والحقد والحسد. وهذا القسم الثاني المتعلقبالقلب أهم من القسم الأول عند الشارع ـ وإن كان الكل مُهمَّاً ـ لأن الباطن أساسالظاهر ومصدره، وأعماله مبدأ أعمال الظاهر، ففي فساده إخلال بقيمة الأعمالالظاهرة، وفي ذلك قال تعالى:

{فمَنْ كانيرجو لقاءَ ربِّه فلْيعملْ عملاً صالحاً ولا يُشرِكْ بعبادة ربِّه أحداً} 


[الكهف: 110].


ولهذا كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يوجه اهتمام الصحابة لإصلاح قلوبهم، ويبين لهم أن صلاح الإنسانمتوقف على إصلاح قلبه وشفائه من الأمراض الخفية والعلل الكامنة، وهو الذي يقول:"ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله،ألا وهي القلب" [رواه البخاري في كتاب الإيمان. ومسلم في كتاب المساقاة عنالنعمان بن بشير رضي الله عنهما].

كما كان عليه الصلاةوالسلام يعلمُهم أن محل نظر الله إلى عباده إنما هو القلب: "إن الله لا ينظرُإلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم" [أخرجه مسلم في صحيحه فيكتاب البر والصلة عن أبي هريرة رضي الله عنه].

فما دام صلاحالإنسان مربوطاً بصلاح قلبه الذي هو مصدر أعماله الظاهرة، تعيَّن عليه العمل علىإصلاحه بتخليته من الصفات المذمومة التي نهانا الله عنها، وتحليته بالصفات الحسنةالتي أمرنا الله بها، وعندئذٍ يكون القلب سليماً صحيحاً، ويكون صاحبه من الفائزينالناجين {يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88ـ89].

قال الإمام جلالالدين السيوطي رحمه الله: (وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياءونحوها، فقال الغزالي: إنها فرض عين) ["الأشباه والنظائر" للسيوطي ص504].

فتنقية القلب،وتهذيب النفس، من أهم الفرائض العينية وأوجب الأوامر الإلهية، بدليل ما ورد في الكتابوالسنة وأقوال العلماء.

آ ـ فمن الكتاب:

1ـ قولهتعالى: {قُلْ إنَّما حرَّمَ ربِّيَ الفواحشَ ما ظهر منها وما بَطنَ}


[الأعراف: 33].


2ـ وقولهتعالى: {ولا تقربوا الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ}


[الأنعام: 151].


والفواحش الباطنةكما قال المفسرون هي: الحقد والرياء والحسد والنفاق...

ب ـ ومن السنة:

1ـ كلالأحاديث التي وردت في النهي عن الحقد والكبر والرياء والحسد... وأيضاً الأحاديثالآمرة بالتحلي بالأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة فلتراجع في مواضعها.


2ـ والحديث "الإيمانبضعٌ وسبعون شعبة: فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق،والحياء شعبة من الإيمان" [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما في كتاب الإيمانعن أبي هريرة رضي الله عنه].


فكمال الإيمان بكمالهذه الشعب والتحلي بها، وزيادته بزيادة هذه الصفات، ونقصه بنقصها، وإن الأمراضالباطنة كافية لإحباط أعمال الإنسان، ولو كانت كثيرة.

ج ـ وأما أقوالالعلماء:

لقد عدَّ العلماءالأمراض القلبية من الكبائر التي تحتاج إلى توبة مستقلة، قال صاحب "جوهرةالتوحيد":

وأمُرْ بعرفٍواجتنبْ نميمةْوغيبةً وخَصلةً ذميمةْ كالعجب والكبرِ وداء الحسدِوكالمراءِ والجدلْفاعتمدِ يقول شارحها عند قوله ـ وخصلة ذميمة ـ: أي واجتنب كل خصلة ذميمة شرعاً،وإنما خصَّ المصنف ما ذكره؛ يعد اهتماماً بعيوب النفس، فإن بقاءها مع إصلاح الظاهركلبس ثياب حسنة على جسم ملطَّخ بالقاذورات، ويكون أيضاً كالعجب وهو رؤية العبادةواستعظامُها، كما يعجب العابد بعبادته والعالم بعلمه، فهذا حرام، وكذلك الرياء فهوحرام. ومثل العجب الظلمُ والبغي والكبر وداء الحسد والمراء والجدل ["شرحالجوهرة" للباجوري ص120 ـ 122 توفي سنة 1277هـ].

ويقول الفقيه الكبيرالعلامة ابن عابدين في حاشيته الشهيرة: (إن علمَ الإخلاص والعجب والحسد والرياءفرضُ عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر والشح والحقد والغش والغضبوالعداوة والبغضاء والطمع والبخل والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة، والاستكبارعن الحق والمكر والمخادعة والقسوة وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكاتمن "الإحياء". قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرىنفسه محتاجاً إليه.

وإزالتها فرض عين،ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، فإن من لا يعرف الشر يقعفيه) ["حاشية ابن عابدين" المسماة رد المحتار على الدر المختار شرحتنوير الأبصار، ج1/ص31].

ويقول صاحب "الهديةالعلائية": (وقد تظاهرت نصوص الشرع والإجماع على تحريم الحسد، واحتقارالمسلمين، وإرادة المكروه بهم، والكبر والعجب والرياء والنفاق، وجملة الخبائث منأعمال القلوب، بل السمع والبصر والفؤاد، كل ذلك كان عنه مسؤولاً، مما يدخل تحت الاختيار)["الهديةالعلائية" علاء الدين عابدين ص315].

ويقول صاحب "مراقيالفلاح": (لا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة، بالإخلاص،والنزاهة عن الغلِّ والغش والحقد والحسد، وتطهير القلب عما سوى الله من الكونين،فيعبده لذاته لا لعلة، مفتقراً إليه، وهو يتفضل بالمن بقضاء حوائجه المضطر بهاعطفاً عليه، فتكون عبداً فرداً للمالك الأحد الفرد، لا يسترقك شيء من الأشياءسواه، ولا يستملكُ هواك عن خدمتك إياه.

قال الحسن البصريرحمه الله:

رُبَّ مستورٍ سبتهشهوتُهْ قد عري من ستره وانْهَتَكَا

صاحبُ الشهوةِ عبدٌفإذا مَلَكَ الشهوة أضحى مَلِكا

فإذا أخلص لله، وبماكلفه به وارتضاه، قام فأدَّاه، حفَّتهُ العناية حيثما توجه وتيمَّم، وعلَّمه ما لميكن يعلم.

قال الطحطاوي في "الحاشية":دليله قوله تعالى:

{واتقواالله ويعلِّمكم الله}[البقرة:282 ]) [حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نورالإيضاح ص70 ـ 71].


فكما لا يحسن بالمرءأن يظهر أمام الناس بثياب ملطخة بالأقذار والأدران، لا يليق به أن يترك قلبهمريضاً بالعلل الخفية، وهو محل نظر الله سبحانه وتعالى:

تطَبِّبُ جسمَكالفاني ليبقى وتترك قلبَك الباقي مريضاً لأن الأمراض القلبية سبب بُعد العبد عنالله تعالى ، وبعده عن جنته الخالدة ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قلبه مثقالُ ذرة مِنْ كبر" [رواه مسلم في صحيحه فيكتاب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله عنه].

وعلى هذا فسلامةالإنسان في آخرته هي في سلامة قلبه، ونجاتُه في نجاته من أمراضه المذكورة.

وقد تخفى علىالإنسان بعض عيوب نفسه، وتدق عليه علل قلبه، فيعتقد في نفسه الكمال، وهو أبعد مايكون عنه، فما السبيل إلى اكتشاف أمراضه، والتعرف على دقائق علل قلبه ؟ وما الطريقالعملي إلى معالجة هذه الأمراض، والتخلص منها ؟

إن التصوف هو الذياختص بمعالجة الأمراض القلبية، وتزكية النفس والتخلص من صفاتها الناقصة.

قال ابن زكوان فيفائدة التصوف وأهميته:

علمٌ به تصفيةُالبواطنْ مِن كدَرَات النفس في المواطنْ

قال العلامةالمنجوري في شرح هذا البيت: (التصوف علم يعرف به كيفية تصفية الباطن من كدراتالنفس، أي عيوبها وصفاتها المذمومة كالغل والحقد والحسد والغش وحب الثناء والكبروالرياء والغضب والطمع والبخل وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء، لأن علمالتصوف يطلع على العيب والعلاج وكيفيته، فبعلم التصوف يُتوصل إلى قطع عقبات النفسوالتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بذلك إلى تخلية القلب عنغير الله تعالى، وتحليته بذكر الله سبحانه وتعالى) ["النصرة النبوية" للشيخمصطفى إسماعيل المدني على هامش شرح الرائية للفاسي ص 26].

أما تحلية النفسبالصفات الكاملة ؛ كالتوبة والتقوى والاستقامة والصدق والإخلاص والزهد والورعوالتوكل والرضا والتسليم والأدب والمحبة والذكر والمراقبة... فللصوفية بذلك الحظالأوفر من الوراثة النبوية، في العلم والعمل.

قد رفضوا الآثامَ والعيوباوطهَّروا الأبدانَ والقلوبا

وبلغوا حقيقةالإيمان وانتهجوا مناهج الإحسان

["لفتوحاتالإلهية في شرح المباحث الأصلية"للعلامة ابن عجيبة على هامش شرح الحكم لابنعجيبة ج1/ص105].

التصوف هو الذياهتم بهذا الجانب القلبي بالإضافة إلى ما يقابله من العبادات البدنية والمالية،ورسَمَ الطريق العملي الذي يوصل المسلم إلى أعلى درجات الكمال الإيماني والخُلُقي،وليس ـ كما يظن بعض الناس ـ قراءةَ أوراد وحِلَقَ أذكار فحسب، فلقد غاب عن أذهانالكثيرين، أن التصوف منهج عملي كامل، يحقق انقلاب الإنسان من شخصية منحرفة إلى شخصيةمسلمة مثالية متكاملة، وذلك من الناحية الإيمانية السليمة،والعبادةالخالصة،والمعاملة الصحيحة الحسنة،والأخلاق الفاضلة.

ومن هنا تظهر أهميةالتصوف وفائدته، ويتجلى لنا بوضوح، أنه روح الإسلام وقلبُهُ النابض، إذ ليس هذاالدين أعمالاً ظاهرية وأموراً شكلية فحسب لا روح فيها ولا حياة.

وما وصل المسلمونإلى هذا الدرْك من الانحطاط والضعف إلا حين فقدوا روح الإسلام وجوهره، ولم يبقفيهم إلا شبحه ومظاهره.

لهذا نرى العلماءالعاملين، والمرشدين الغيورين، ينصحون الناس بالدخول مع الصوفية والتزام صحبتهم،كي يجمعوا بين جسم الإسلام وروحه، وليتذوقوا معاني الصفاء القلبي والسمو الخُلقي،وليتحققوا بالتعرف على الله تعالى المعرفة اليقينية، فيتحلوا بحبه ومراقبته ودوامذكره.

قال حجة الإسلامالإمام الغزالي بعد أن اختبر طريق التصوف، ولمس نتائجه، وذاق ثمراته: (الدخول معالصوفية فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام)["النصرة النبوية" على هامش شرح الرائية للفاسي ص26].

وقال أبو الحسنالشاذلي رضي الله عنه: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لايشعر). وفي هذا القول يقول ابن علاَّن الصديقي (ولقد صدق فيما قال ـ يعني أباالحسن الشاذلي ـ فأي شخص يا أخي يصوم ولا يعجب بصومه ؟ وأي شخص يصلي ولا يعجببصلاته ؟ وهكذا سائر الطاعات) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" لابن عجيبة ص7].

ولما كان هذا الطريقصعب المسالك على النفوس الناقصة، فعلى الإنسان أن يجتازه بعزم وصبر ومجاهدة حتىينقذ نفسه من بُعد الله وغضبه.

قال الفضيل بن عياضرضي الله عنه: (عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريقَ الباطل،ولا تغتر بكثرة الهالكين. وكلما استوحشت من تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرصعلى اللحاق بهم، وغُضَّ الطرف عن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله تعالى شيئاً،وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفتَّ إليهم أخذوك وعاقوك)["المنن الكبرى" للشعراني ج1/ص4].

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اكواد اسلامية html

اكواد اسلامية html اقدم لكم اخوتى فى الله أكوادا اسلامية مهمة جدا لمدونتك تجعلها جذابة        جعل الله ذلك فى ميزان حسناتك ********** طريقة وضع الكود فى مدونات قوقل (بلوجز) من اعلى الصفحة اضغط تصميم أختر اضافة أداة ثم أختر HTML/javascript ضع الكود فى المحتوى ثم اضغط على حفظ ***************    كود اناشيد اسلامية انسخ الكود التالي <center><iframe align="center" id="IW_frame_1438" src=" http://www.tvanashed.com/add/index.htm " frameborder="0" allowtransparency="1" scrolling="no" width="302" height="334"></iframe></center> كود القران الكريم <div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"> <span class="Apple-style-span" style="color: #887766; font-family: Arial, sans-serif; font-size: small;"><span class="Apple-style-span" style="font-size: 12px;"><span class="Apple-style-span" style...

المبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي

  والمبسوط كتاب في الفقه على المذهب الحنفي ، استوعب فيه المؤلف جميع أبواب الفقه بأسلوب سهل ، وعبارة واضحة ، وبسط في الأحكام والأدلة والمناقشة ، مع المقارنة مع بقية المذاهب ، وخاصة المذهب الشافعي والإمام مالك ، وقد يذكر مذهب الإمام أحمد والظاهرية . وطريقة المبسوط أن يذكر المؤلف المسألة الفقهية ، ويبين حكمها على المذهب الحنفي ، ثم يستدل لها ، ثم يذكر آراء بعض المذاهب المخالفة ، ويشرح أدلتها ، ثم يناقش الأدلة ، ويرد عليها بما يراه الحق ، وقد يجمع بين أدلة الحنفية وأدلة المذاهب الأخرى المخالفين لهم جمعا حسنا ، يبعد التعارض . وهذا الكتاب شرح لكتاب " الكافي " للحاكم الشهيد محمد بن محمد المروزي ( 334هـ ) إمام الحنفية في وقته ، وقد جمع في " الكافي " كتب ظاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن في فروع المذهب الحنفي . والمبسوط كتاب قيم ومفيد ، وهو أوسع الكتب المطبوعة في الفقه الحنفي ، والفقه المقارن ، ويعتمد عليه الحنفية في القضاء والفتوى ، وفي التدريس والتصنيف . وكان السرخسي قد ألفه كله أو جله إملاء من ذاكرته ، وهو سجين في بئر في أوزجند بفرغانه ، وقال في مقدمته : " فرأيت ال...